بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1- يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر :
تشير الدراسات العلمية المحققة، في وظائف أعضاء الجسم، أثناء مراحل التجويع، إلى يسر الصيام الإسلامي وسهولته، تحقيقاً لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [ البقرة:185] وفي تفسير الآية قال الرازي: إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض ولا على المسافر (التفسير الكبير للرازي 2/82 ط3 دار الباز).
ويتجلى يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية، وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام، يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلاً، فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام لمدة طويلة، أو حتى لمدة يوم وليلة ، وقد تجلى هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر.
فقد قسمت المراجع الطبية التجويع إلى ثلاث مراحل: مرحلة مبكرة، ومتوسطة، وطويلة الأجل,وتقع المرحلة المبكرة بعد نهاية فترة امتصاص آخر وجبة ( أي بعد حوالي 5 ساعات من الأكل ) وحتى نهاية فترة ما بعد الامتصاص والتي تتراوح مدتها حوالي 12 ساعة، في هذه الفترة يقع الصيام الإسلامي ، وهذه الفترة من الانقطاع عن الطعام آمنة تماماً بالمقاييس العلمية، فالجلوكوز هو الوقود الوحيد للمخ، والدهون لا تتأكسد بالقدر الذي يولد أجساماً كيتونية تضر بالجسم أثناء هذه الفترة، كما لا يستهلك البروتين في إنتاج الطاقة بالقدر الذي يحدث خللاً في التوازن النتروجيني في الجسم. مما حدا ببعض العلماء أن يسقط فترة ما بعد الامتصاص من مراحل التجويع أصلاً، وهذه الحقيقة تجعل الصيام الإسلامي متفرداً في يسره وسهولته عكس مراحل التجويع الأخرى.
من خلال عرض الحقائق السابقة، ندرك أن مدة الصيام الإسلامي والتي تتراوح من 12-16 ساعة في المتوسط، يقع جزء منها في فترة الامتصاص، ويقع معظمها في فترة ما بعد الامتصاص، ويتوفر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليكوجين، وأكسدة الدهون وتحللها, وتحلل البروتين، وتكوين الجلوكوز الجديد منه، ولا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي وظيفة من وظائفه، فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد موادا تضر بالجسم، ولا يحدث توازن نتروجيني سلبي لتوازن استقلاب البروتين، ويعتمد المخ البشري، وخلايا الدم الحمراء، والجهاز العصبي، على الجلوكوز وحده للحصول منه على الطاقة بينما التجويع أو الصيام الطبي - القصير والطويل منه - لا يقف عند تنشيط هذه الآليات، بل يشتد حتى يحدث خللاً في بعض وظائف الجسم.
يعتبر الصيام الإسلامي تمثيلاً غذائياً فريداً، إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور، يبدأ البناء للمركبات الهامة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة، والتي استهلكت في إنتاج الطاقة، وبعد فترة امتصاص وجبة السحور، يبدأ الهدم، فيتحلل المخزون الغذائي من الجليكوجين والدهون، ليمد الجسم بالطاقة اللازمة، أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام.
لذلك كان تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم وحثه على ضرورة تناول وجبة السحور، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ تسحروا فإن في السحور بركة " متفق عليه.
وذلك لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة 4 ساعات، محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام، وبهذا أيضاً يمكن تقليص فترة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على تعجيل الفطر حيث قال: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر - متفق عليه " كما حث على تأخير السحور فقد روى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: " تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم كان بينهما ؟ قال خمسون آية " (متفق عليه)
وهذا من شأنه تقليص فترة الصيام أيضاً إلى أقل حد ممكن، حتى لا يتجاوز فترة ما بعد الامتصاص ما أمكن، وبالتالي فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكل ضغطاً نفسياً ضاراً على الجسم البشري، بحال من الأحوال.
وبناء على هذه الحقائق يمكننا أن نؤكد أن الذي يتوقف أثناء الصيام، هو عمليات الهضم والامتصاص، وليست عمليات التغذية، فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية ، وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها.
2- وأن تصوموا خير لكم :
ثبت من خلال الأبحاث الطبية بعض الفوائد الوقائية للصيام ضد كثير من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- يقوي الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة، حيث يتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية المناعية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسئولة عن المناعة النوعية (T lymphocytes) زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم، وتنشط الردود المناعية نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.
2- يقي الصيام الجسم من أخطار السموم المتراكمة في خلاياه، وبين أنسجته، من جراء تناول الأطعمة، وخصوصاً المحفوظة والمصنعة منها وكذلك بقايا الأدوية والهواء الملوث بهذه السموم.
- إن تحمل ألم الجوع والصبر عليه يحسن من مستوى مادة السيروتونين Serotonin وكذلك ما يسمى بمخدرات الألم الطبيعية التي يقوم المخ بإفرازها وهي مجموعتان تعرفان بـ : (1) مجموعة الأندورفين Endorphins المسنخلصة من الغدة النخامية Pituitary Gland ولهذه المواد خواص في التهدئة وتسكين الألم أقوى عشرات المرات من العقاقير المخدرة والمهدئة الصناعية (2) مجموعة الانكفالين Enkephalins والتي توجد في نهايات الأعصاب . ولكي يستمر إفراز هذه المواد المهدئة والمسكنة والمزيلة لمشاعر الألم والإكتئاب لابد أن يمر الإنسان بخبرات حرمان ونوع من ألم التحمل وأن يمتنع عن تناول المواد والعقاقير التي تثير البهجة وتخدر الألم خاصة الأفيون ومشتقاته وبعض العقاقير المخدرة الحديثة .
فوائد أخرى تجنى بالصوم:
1- يمكن الصيام آليات الهضم والامتصاص في الجهاز الهضمي وملحقاته، من أداء وظائفها على أتم وأكمل وجه، وذلك بعدم إدخال الطعام والشراب على الوجبة الغذائية، أثناء هضمها وامتصاصها. كما يتيح الصيام راحة فسيولوجية للجهاز الهضمي وملحقاته، وذلك بمنع تناول الطعام والشراب لفترة زمنية، تتراوح من 9 - 11 ساعة بعد امتصاص الغذاء كما تستريح آليات الامتصاص في الأمعاء طوال هذه الفترة من الصيام. وتتمكن الانقباضات الخاصة (Migrating Motor Complex ) بتنظيف الأمعاء،عن طريق عملها المستمر دون توقف.
2- يمكن الصيام الغدد الصماء ذات العلاقة بعمليات الاستقلاب، في فترة ما بعد الامتصاص، ومن أداء وظائفها، في تنظيم وإفراز هرموناتها الحيوية على أتم حال، وذلك بتنشيط آليات التثبيط والتنبيه لها يومياً، ولفترة دورية ثابتة، ومتغيرة طوال العام، وبالتالي يحصل توازن بين الهرمونات المتضادة في العمل، مثل هرموني: النمو والإنسولين، كهرمونات بناء من ناحية، وهرموني: الجلوكاجون والكورتيزول، كهرمونات هدم من ناحية أخرى، والتي يتوقف على توازنها الدقيق تركيز الأحماض الأمينية في الدم,وتوازن الاستقلاب.
3- ينشط الصيام آليات الاستقلاب أو التمثيل الغذائي في البناء والهدم للجلوكوز والدهون، والبروتينات في الخلايا، لتقوم بوظائفها على أكمل وجه.
4- تتهدم الخلايا المريضة والضعيفة في الجسم عندما يتغلب الهدم على البناء أثناء الصيام، وتتجدد الخلايا أثناء مرحلة البناء.
5- كذلك فإن أداء الصيام الإسلامي طاعة لله وخشوعاً له، ورجاء فيما عنده سبحانه من الأجر والمثوبة، لعمل ذو فائدة جمة لنفس الإنسان وجسمه، حيث يبث في النفس السكينة والطمأنينة، وينعكس هذا بدوره على آليات الاستقلاب فيجعلها تتم في أوفق وأيسر وأنفع السبل، مما يعود بالنفع والفائدة على الجسم. إن الصيام كاقتناع فكري وممارسة عملية، يقوي لدى الإنسان كثيراً من جوانبه النفسية، فيقوي لديه الصبر، والجلد، وقوة الإرادة، وضبط النوازع والرغبات، ويضفي على نفسه السكينة والرضا والفرح... وقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه " (1) متفق عليه.
6- ثبت بالدليل العلمي القاطع أن الصيام الإسلامي ليس له أي تأثير سلبي على الآداء العضلي وتحمل المجهود البدني، بل بالعكس أظهرت نتائج البحث القيم الذي أجراه الدكتور أحمد القاضي وزملاؤه بالولايات المتحدة الأمريكية أن درجة تحمل المجهود البدني -وبالتالي كفاءة الآداء العضلي- قد ازداد بنسبة 200% عند 30% من أفراد التجربة، و7% عند 40% منهم، وتحسنت سرعة دقات القلب بمقدار 9%، كما تحسنت درجة الشعور بإرهاق الساقين بقمدار 11%. وهذا يبطل المفهوم الشائع عند كثير من الناس من أن الصيام يضعف المجهود البدني، ويؤثر على النشاط فيقضون معظم النهار في النوم والكسل.
هذه بعض اوجه الاعجاز العلمي في الصيام مما أثبته العلم الحديث ولاتزال الأبحاث جارية في هذا الباب ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)